بقلم/ أحمد عادل حلمي
«هكذا تصنعون طواغيتكم»، قالها الرئيس البوسني الراحل، علي عزت بجوفيتش،
بغضب في جمع من المصلين؛ عندما وصل متأخرا لصلاة الجمعة ذات مرة وكان قد اعتاد
الصلاة في الصفوف الأمامية، فأفسح له المصلون الطريق لكي يصل للصف الأول -دون أن
يسألهم هو ذلك-، فعندما وصل استدار لهم وقال مقولته الشهيرة السابق ذكرها، مبديا
غضبه من ذلك السلوك المجتمعي البغيض.
ومنذ قديم الأزل، والمصري يمارس هذا السلوك ويتفنن ويبدع في «صنع طواغيته
وفراعنته» وتأليه حكامه وتقديسهم ووضعهم في مكانة عالية وإحاطتهم بهالة من التبجيل
والتوقير الزائف، ساهم في ذلك تعدد الفترات المظلمة في التاريخ المصري، وتعاقب
الأزمات وسوء الأحوال المعيشية وتخيل «المواطن المطحون» أن الحاكم يملك العصا
السحرية التي يستطيع بها تحقيق أمانيه بين طرفة عين وانتباهها.
ففي العصر الفرعوني؛ كان المصريون يتصارعون لتقديم فروض الولاء والطاعة
للحاكم حتى ينالوا رضاه، متصورين أنهم بذلك يؤدون واجبا مقدسا، الأمر الذي جعل
الحاكم نفسه يتصور أنه «إله» يأمر فيطاع، وهو ما حاول «فرعون» تطبيقه حرفيا،
للتأثير على شبعه وتشويه صورة النبي موسى «عليه السلام» لديهم، وكما جاء في كتاب
الله على لسان فرعون «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» (غافر-29).
وكأن الزمن يصر على أن يعيد نفسه، فقد تكرر هذا الأمر مع كافة الحكام منذ
عهد الفراعنة مرورا بأنظمة الحكم المختلفة التي تعاقبت على مصر «العباسي، الفاطمي،
العثماني، الدولة الحديثة ومحمد علي» ووصولا لعصر الجمهورية؛ الذي شهد أكبر ظاهرة
في العصر الحديث لفرعنة المصري لحكامه، والتي أرسى قواعدها في عهد الرئيس الراحل
جمال عبد الناصر، وقد عرف منذ اليوم الأول له «من أين يؤكل الكتف» ولعب بمهارة
ودهاء شديدين على هذا الوتر الحساس في قلوب المصريين ونجح بجدارة في وضع نفسه في
مكانة «الفرعون» الأعظم -بمساعدة المصريون أنفسهم- ومن يشذ عن القاعدة الموضوعة
فقل عليه "يا رحمن يا رحيم" من الشعب نفسه قبل أن يكون من النظام
الحاكم.
ولا شك أن كافة الرؤساء الذين، لحقوا بعبد الناصر، قد استفادوا من ذلك
النهج، وإن اختلفت الدرجات التي حدث بها ذلك، ولكن أيا منهم لم يستطع أن ينازع
«ناصر» في تلك المكانة بقلوب المصريين حتى بعد رحيله بعشرات السنوات، لأن الرجل
والحق يقال كان له «كاريزما» خاصة به لم يستطع أحد فك شفراتها وأسبابها، بالرغم من
أن الأوضاع في عهده كانت غاية في السوء وشهدت تراجعا شديدا في أحوال البلاد
والعباد، في كل شيء «اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.. وعسكريا أيضا» ولكن الالتفاف
حول شخصه وخطبه الحماسية كان لا يعلو فوق صوته أي صوت آخر.
وقيل قديما "يا فرعون إيه اللي فرعنك.. قال مالقيتش حد يلمني"،
أي أن الشعب هو من يملك جعل الحاكم يمشي على الصراط المستقيم، أو أن يجعله في برج
عاجي لا يمس كما حدث ويحدث وسيحدث مع كافة الحكام الذين تولوا زمام الأمور في تلك
البلاد، طالما تفكير السواد الأعظم من المصريين واحد لا يتغير، وإن تغير يكون
للأسوأ.
ولأن المصري -مبدع بطبعه-، فقد تفوق على نفسه، وتحول من «فرعنة» الحاكم من
بعد وصوله لسدة الحكم؛ إلى «فرعنته» قبل جلوسه على كرسي العرش وهو ما يحدث الآن
بفجاجة مع المشير عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع السابق والمرشح لرئاسة
الجمهورية، فالمشكلة ليست في السيسي نفسه على قدر ما هي مرتبطة بـ«المطبلاتيه» وشلة
المنتفعين المحيطين به والكتاب والكاتبات والمذيعين والمذيعات الذين يتغزلون فيه
ليل نهار ويسلكون مسلكا؛ بعيدا كل البعد عما يجب أن يكون، غير مدركين أن ذلك لا
يصب في مصلحة الرجل على الإطلاق بل العكس من ذلك.
وسواء اختلفنا أو اتفقنا حول الرجل، فالأزمة أبعد من ذلك، فمشكلة «السيسي»
أن المصريين وضعوه في مكانة عالية جدا وألقوا عليه بآمالهم العريضة في بناء
المستقبل وانتشال البلاد من عثرتها والانطلاق بها نحو آفاق جديدة، والوضع لم يقف
عند هذا الحد بل آخذ منحى خطيرا، تمثل في الهجوم الشديد على كل من يفكر مجرد تفكير
في انتقاد موقف ما أو تصريح أدلى به المشير، واتهامه بأنه خائن وعميل ومنتمي
للإخوان.
التركيب العقلي للعقلي لقطاع من المصريين يرفض بشدة أي محاولة لنقد أو
تقويم أي ظاهرة لديهم وخاصة إذا كانت متعلقة برمز "انتشلهم من غياهب
الجب" كما يذهب البعض بالتوصيف، ويساهم في ذلك بشكل كبير إعلامنا المبجل الذي
يغالي ويبالغ في تمجيد الرجل وإظهاره بمظهر «الفارس الشجاع» الذي أتى على صهوة
جواده لانتشال «الأميرة الجميلة» -مصر- من وسط ثلة من الرعاع واللصوص، وكأن مصر
أصبحت عاقرا ولم تنجب سواه، فالسيسي ليس نبيا مرسل أو "إلها" فوق مستوى
النقض لكنه له ما له وعليه ما عليه، وإذا أردتم بالفعل مصلحة الوطن فيجب أن
تتيقنوا أن النقد مسلك صحي في سبيل ذلك.
«السيسي» من حقه بالطبع كمواطن مصري -يتمتع بكامل حقوقه- أن يترشح لأرفع
منصب بالدولة مثله مثل أي مواطن آخر وقد يكون عدد لا بأس به من المصريين يميل
لانتخابه وتوليته زمام الأمور ولكن الأمور لا يجب أن تدار هكذا، فمصر ليست بالدولة
الهينة التي يجب أن تحكم «بالحب وكوننا نور عينه من عدمه» وخاصة بعد ثورتين
كبيرتين غيرتا شكل الحياة السياسية بالبلاد، ولكن ببرنامج واضح ومحدد نستطيع على
أساسه حسم قرارنا باختياره أو باختيار غيره.
والسؤال الذي يتبادر إلى ذهني الآن، "إذا كان
المصريون أنفسهم وبمعاونة أجهزة إعلام لها توجهات معينة «يفرعنون» الرجل الآن قبل
أن يصبح رئيسا ولا يطيقون أي كلمة نقض في حقه، فما شكل الحياة إذا فاز السيسي
بالفعل -وهو أمر ليس ببعيد- بمنصب رئيس الجمهورية!؟" وليس أدل على ذلك سوى
المقولة القديمة "أوردها سعد وسعد مشتمل.. ما هكذا يا سعد تورد الأبل"
والتي تقال عندما يقدم شخص على فعل شيء ما بطريقة خاطئة تؤدي به في النهاية للفشل
الذريع، فالمقدمات الخاطئة لا تؤدي دائما سوى لنتائج خاطئة قد تصل في بعض الأحيان
لمستوى الكارثية.
.jpg)